
جواد جعواني،
دعا الملك محمد السادس، بصفته أمير المؤمنين، رعاياه هذا العام إلى الامتناع عن ذبح الأضاحي، حفاظًا على القطيع الوطني في ظل الجفاف، وغلاء الأعلاف. وقد بدا القرار في ظاهره منسجمًا مع مقاصد الشريعة ومصلحة الأمة، جامعًا بين العقل الديني والعقل التدبيري. لكنه ما لبث أن أثار نقاشًا واسعًا، في ظل مؤشرات اجتماعية لا تزال تعكس تمسكًا عنيدًا بالعيد، ولو على نحو خفي: فقد ضُبط عدد من المواطنين في الأيام الأخيرة وهم يخبئون الأكباش استعدادًا لذبحها يوم العيد، كما لوحظ إقبال متزايد على المجازر ومحلات بيع اللحوم، وكأن المغاربة يستعدون لعيدٍ “غير رسمي”.
من منظور أنثروبولوجي، لا يُفهم هذا السلوك بوصفه خرقًا أو عصيانًا لقرار رسمي، بل يُقرأ كنوع من الوفاء لمنظومة رمزية عريقة. فالأضحية، كما أشار المفكر المغربي عبد الله حمودي في كتابه “الضحية وأقنعتها”، ليست مجرد شعيرة دينية، بل لحظة كثيفة من التوتر الرمزي، حيث يتجلى الصراع بين السلطة والإيمان، بين الجسد والرغبة، بين الطقس والانضباط. ويكتب حمودي أن “الذبيحة لا تكتمل إلا إذا تمّت في ظل نظام من العلاقات الاجتماعية، حيث تُقدَّم باسم الجماعة، ومن أجل الحفاظ على تراتبيتها وهيبتها.”
قرار إلغاء العيد، مهما بدا عقلانيًا، يصطدم برمزية الطقس في المخيال الشعبي. ماري دوغلاس، في كتابها عن الطهارة والخطر، رأت أن الطقوس تشكّل بنيات تنظيمية للمعنى، وتوفر الشعور بالنظام في عالم متغير. من هذا المنظور، تعطيل العيد يترك فراغًا وجوديًا، يحاول الأفراد ملأه بوسائلهم الخاصة: اقتناء الأكباش سرًا، أو التهافت على اللحوم، ليست مجرد سلوكيات استهلاكية، بل تعبير عن حاجة رمزية لعيش الطقس، حتى وإن كان ذلك بصيغ رمزية بديلة.
أما رينيه جيرار، فقد اعتبر أن الذبيحة في المجتمعات التقليدية تعمل كوسيلة لتفريغ التوترات الداخلية، وتحقيق السلام الاجتماعي من خلال “قربان جماعي” يخفف العنف الرمزي. حين يُلغى هذا القربان، تزداد التوترات الداخلية، فيبحث المجتمع عن تعويض – حتى إن كان مؤجلًا أو سريًا – يعيد له توازنه النفسي والرمزي.
هذه السلوكيات، إذن، ليست رفضًا لقرارات الدولة بل تعبير عن استمرارية طقس اجتماعي شديد التعقيد، يتداخل فيه المقدس بالاجتماعي، والاقتصادي بالرمزي. كما أنها تبرز محدودية المقاربة التقنية في إدارة الشعائر، حين لا تُرافقها إعادة تأويل ثقافي شامل يُراعي تشابك المعاني والدلالات.
في النهاية، لم يُذبح شيء بعد، لكن كل المؤشرات توحي بأن العيد، وإن ألغي رسميًا، لا يزال حيًا في النفوس. المواطن المغربي، وإن امتثل في الظاهر، لا يزال يحتفظ بكبشه في الخفاء، لا عنادًا، بل حفاظًا على توازن رمزي يراه جوهريًا لكرامته وانتمائه.
لعل السؤال اليوم ليس: هل سيُذبح الكبش أم لا؟ بل: كيف نعيد كتابة معنى العيد في ظل أزمات المناخ والاقتصاد، دون أن نفقد صوته الداخلي؟