لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟

لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟
جواد جعواني
جواد جعواني

جواد جعواني
صحفي، خبير في التواصل

في زمن غارق في الضجيج الرقمي وتضخّم المحتوى، يعود سؤال الكتابة إلى الواجهة: لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ هل ما زالت للكتابة تلك القوة القديمة في التأثير والخلخلة؟ أم تحوّلت إلى صرخة في الفراغ، لا يسمعها أحد؟
الكتابة، كما قال جاك دريدا، ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي “أثر” يسبق الحضور ويؤجله. نكتب إذن، لا لنثبت شيئًا، بل لنفتح الجرح، لنؤسس للممكن، لنؤجل النهاية. الكتابة، في منطق دريدا، ليست أداة، بل كينونة تخلخل كل يقين.
أما من منظور كلود ليفي-ستراوس، فإن الكتابة لم تكن يومًا محايدة. في أحد نصوصه الشهيرة، يلاحظ أن المجتمعات التي تبنت الكتابة أولًا، فعلت ذلك لا من أجل نقل الحكمة، بل من أجل ترسيخ السيطرة والسلطة وتوثيق الضرائب. وهكذا فإن فعل الكتابة نفسه ولد في أحضان الدولة، لا في قلوب الشعراء. نكتب داخل منظومات قوى، ننتج رموزًا تشكّلنا مثلما نظن أننا نشكّلها.
ومع ذلك، لا يمكن اختزال الكتابة في بعدها السلطوي فقط. فالكاتب، في قلب هذه الشبكة الرمزية، يستطيع أن يحوّل اللغة إلى أداة لمقاومة الهيمنة. كما عبّر عن ذلك ميشال دو سرتو، فإن الكتابة اليومية يمكن أن تصبح فنًّا للمراوغة، شكلاً من “التكتيك” الثقافي الذي يمكّن المهمّشين من إعادة تأويل الخطاب السائد. نكتب إذن لنخترق المألوف، لنلعب في الهامش، لنعيد توزيع المعنى.
لكن، لمن نكتب؟ لمن نوجّه هذا الأثر المؤجل، هذا الأثر المراوغ؟
نكتب للذين يشبهوننا، نكتب ضدهم، نكتب معهم. نكتب كما لو أننا نوجّه خطابًا لقارئ مفترض، وفي الآن نفسه، نعلم أننا نكتب لأنفسنا بقدر ما نكتب للآخر. نكتب لمن قد يلتقط الرسالة بعد عشرين سنة. نكتب كمن يُلقي زجاجة في البحر، لا يعرف من سيقرأها، لكنه يعرف أنه لولاها لاختنق.
ولأننا نعيش في مجتمعات حيث الكلمة لا تزال تخضع للرقابة، وحيث الكاتب يُساءَل عن نواياه قبل نصوصه، تصبح الكتابة مقاومة. مقاومة ضد النسيان، ضد التبسيط، ضد المراقبة، وضد اختزال المعنى في شعارات جاهزة. إنها، بتعبير بيير بورديو، شكل من أشكال “رأسمال رمزي”، قابل للتأويل، للتوظيف، وللمواجهة.
وفي العالم العربي، يزداد سؤال الكتابة تعقيدًا. فالكُتّاب يعيشون بين مطرقة الرقابة وسندان اللامبالاة، بين مؤسسات تُخضع الكلمة للتأطير، وجمهور مشغول بلقمة العيش أو غارق في إدمان الصورة. ومع ذلك، تظل الكتابة فعلًا من أفعال الأمل. تظل حفرًا في جدار الصمت، ومقاومة ضد التبليد. حين يكتب الروائي أو الشاعر أو الصحفي العربي اليوم، فهو لا يمارس مجرد تعبير فردي، بل ينخرط، بوعي أو بدونه، في معركة رمزية ضد التعتيم، وضد النسيان.
إنها معركة من أجل المعنى، في زمن يتآكل فيه المعنى.

الاخبار العاجلة